سورة الأنعام - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


بدأ سبحانه هذه السورة بالحمد لله، للدلالة على أن الحمد كله لله، ولإقامة الحجة على الذين هم بربهم يعدلون.
وقد تقدّم في سورة الفاتحة ما يغني عن الإعادة له هنا، ثم وصف نفسه بأنه الذي خلق السموات والأرض إخباراً عن قدرته الكاملة، الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد، فإن من اخترع ذلك وأوجده، هو الحقيق بإفراده بالثناء وتخصيصه بالحمد، والخلق يكون بمعنى الاختراع، وبمعنى التقدير.
وقد تقدّم تحقيق ذلك، وجمع السموات لتعدد طباقها، وقدّمها على الأرض لتقدّمها في الوجود {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} [النازعات: 30]. قوله: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} معطوف على خلق. ذكر سبحانه خلق الجواهر بقوله: {خَلقَ السموات والأرض} ثم ذكر خلق الأعراض بقوله: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} لأن الجواهر لا تستغني عن الأعراض.
واختلف أهل العلم في المعنى المراد بالظلمات والنور؛ فقال جمهور المفسرين: المراد بالظلمات سواد الليل، وبالنور ضياء النهار.
وقال الحسن: الكفر والإيمان. قال ابن عطية: وهذا خروج عن الظاهر انتهى. والأولى أن يقال: إن الظلمات تشمل كل ما يطلق عليه اسم الظلمة، والنور يشمل كل ما يطلق عليه اسم النور، فيدخل تحت ذلك ظلمة الكفر ونور الإيمان {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات} [الأنعام: 122] وأفرد النور لأنه جنس يشمل جميع أنواعه، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها وتعدد أنواعها. قال النحاس: جعل هنا بمعنى خلق، وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعدّ إلا إلى مفعول واحد، وقال القرطبي: جعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره. قال ابن عطية: وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق، فيكون الجمع معطوفاً على الجمع، والمفرد معطوفاً على المفرد، وتقديم الظلمات على النور لأنها الأصل، ولهذا كان النهار مسلوخاً من الليل.
قوله: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} معطوف على الحمد لله، أو على خلق السموات والأرض، و{ثم} لاستبعاد ما صنعه الكفار من كونهم بربهم يعدلون مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السموات والأرض والظلمات والنور، فإن هذا يقتضي الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه، لا الكفر به واتخاذ شريك له، وتقديم المفعول للاهتمام، ورعاية الفواصل، وحذف المفعول لظهوره، أي يعدلون به مالا يقدر على شيء مما يقدر عليه، وهذا نهاية الحمق وغاية الرقاعة حيث يكون منه سبحانه تلك النعم، ويكون من الكفرة الكفر.
قوله: {هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ} في معناه قولان: أحدهما، وهو الأشهر، وبه قال الجمهور أن المراد آدم عليه السلام، وأخرج مخرج الخطاب للجميع، لأنهم ولده ونسله. الثاني، أن يكون المراد جميع البشر باعتبار أن النطفة التي خلقوا منها مخلوقة من الطين، ذكر الله سبحانه خلق آدم وبنيه بعد خلق السموات والأرض إتباعاً للعالم الأصغر بالعالم الأكبر، والمطلوب بذكر هذه الأمور دفع كفر الكافرين بالبعث، وردّ لجحودهم بما هو مشاهد لهم لا يمترون فيه.
قوله: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} جاء بكلمة {ثم} لما بين خلقهم وبين موتهم من التفاوت.
وقد اختلف السلف ومن بعدهم في تفسير الأجلين، فقيل: {قَضَى أَجَلاً} يعني الموت {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} يعني القيامة، وهو مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والضحاك، ومجاهد، وعكرمة، وزيد بن أسلم، وعطية والسديّ وخصيف، ومقاتل وغيرهم، وقيل الأوّل: ما بين أن يخلق إلى أن يموت؛ والثاني: ما بين أن يموت إلى أن يبعث، وهو قريب من الأوّل. وقيل الأوّل مدّة الدنيا؛ والثاني عمر الإنسان إلى حين موته. وهو مرويّ عن ابن عباس ومجاهد. وقيل: الأوّل قبض الأرواح في النوم؛ والثاني قبض الروح عند الموت. وقيل: الأوّل ما يعرف من أوقات الأهلة والبروج وما يشبه ذلك؛ والثاني أجل الموت. وقيل: الأوّل لمن مضى. والثاني لمن بقي ولمن يأتي. وقيل: إن الأوّل الأجل الذي هو محتوم؛ والثاني الزيادة في العمر لمن وصل رحمه، فإن كان برّاً تقياً وصولاً لرحمه زيد في عمره، وإن كان قاطعاً للرحم لم يزد له، ويرشد إلى هذا قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب} [فاطر: 11].
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم تزيد في العمر، وورد عنه أن دخول البلاد التي قد فشا بها الطاعون والوباء من أسباب الموت؛ وجاز الابتداء بالنكرة في قوله: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} لأنها قد تخصصت بالصفة.
قوله: {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} استبعاد لصدور الشك منهم مع وجود المقتضى لعدمه، أي كيف تشكون في البعث مع مشاهدتكم في أنفسكم من الابتداء، والابتداء ما يذهب بذلك ويدفعه، من خلقكم من طين، وصيركم أحياء تعلمون وتعقلون، وخلق لكم هذه الحواس والأطراف، ثم سلب ذلك عنكم فصرتم أمواتاً، وعدتم إلى ما كنتم عليه من الجمادية، لا يعجزه أن يبعثكم ويعيد هذه الأجسام كما كانت، ويردّ إليها الأرواح التي فارقتها بقدرته وبديع حكمته.
قوله: {وَهُوَ الله فِى السموات وَفِى الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} قيل: إن في السموات وفي الأرض متعلق باسم الله باعتبار ما يدل عليه من كونه معبوداً ومتصرفاً ومالكاً، أي هو المعبود أو المالك أو المتصرف في السموات والأرض كما تقول: زيد الخليفة في الشرق والغرب، أي حاكم أو متصرف فيهما؛ وقيل المعنى: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، فلا تخفى عليه خافية، فيكون العامل فيهما ما بعدهما.
قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه.
وقال ابن جرير: هو الله في السموات ويعلم سركم وجهركم في الأرض. والأوّل أولى، ويكون {يعلم سركم وجهركم} جملة مقرّرة لمعنى الجملة الأولى، لأن كونه سبحانه في السماء والأرض، يستلزم علمه بأسرار عباده وجهرهم، وعلمه بما يكسبونه من الخير والشرّ، وجلب النفع ودفع الضرر.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن عليّ أن هذه الآية أعني {الحمد لله} إلى قوله: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} نزلت في أهل الكتاب.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في الزنادقة، قالوا: إن الله لم يخلق الظلمة ولا الخنافس، ولا العقارب، ولا شيئاً قبيحاً، وإنما يخلق النور وكل شيء حسن، فأنزلت فيهم هذه الآية.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس {وَجَعَلَ الظلمات والنور} قال: الكفر والإيمان.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة قال: إن الذين بربهم يعدلون هم أهل الشرك.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السديّ مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد قال: {يَعْدِلُونَ} يشركون.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن زيد في قوله: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} قال: الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله، وليس لله عدل ولا ندّ، وليس معه آلهة ولا اتخذ صاحبة ولا ولداً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ} يعني آدم {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً} يعني أجل الموت {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} أجل الساعة والوقوف عند الله.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، عنه في قوله: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً} قال: أجل الدنيا، وفي لفظ أجل موته {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} قال: الآخرة لا يعلمه إلا الله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه {قَضَى أَجَلاً} قال: هو اليوم يقبض فيه الروح، ثم يرجع إلى صاحبه من اليقظة {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} قال: هو أجل موت الإنسان.


قوله: {وَمَا تَأْتِيهِم} الخ كلام مبتدأ لبيان بعض أسباب كفرهم وتمرّدهم، وهو الإعراض عن آيات الله التي تأتيهم كمعجزات الأنبياء، وما يصدر عن قدرة الله الباهرة مما لا يشك من له عقل أنه فعل الله سبحانه، والإعراض: ترك النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله و{من} في {مّنْ ءايَةٍ} مزيدة للاستغراق و{من} في {مِنْ آيات} تبعيضية، أي وما تأتيهم آية من الآيات التي هي بعض آيات ربهم، إلا كانوا عنها معرضين، والفاء في {فَقَدْ كَذَّبُواْ} جواب شرط مقدر، أي إن كانوا معرضين عنها فقد كذبوا بما هم أعظم من ذلك، وهو الحق {لَمَّا جَاءهُمْ} قيل: المراد بالحق هنا القرآن، وقيل محمد صلى الله عليه وسلم {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} أي أخبار الشيء الذي كانوا به يستهزءون وهو القرآن، أو محمد صلى الله عليه وسلم، على أن {ما} عبارة عن ذلك تهويلاً للأمر وتعظيماً له، أي سيعرفون أن هذا الشيء الذي استهزءوا به ليس بموضع للاستهزاء، وذلك عند إرسال عذاب الله عليهم، كما يقال: اصبر فسوف يأتيك الخبر عند إرادة الوعيد والتهديد، وفي لفظ الأنباء ما يرشد إلى ذلك، فإنه لا يطلق إلا على خبر عظيم.
قوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ} كلام مبتدأ لبيان ما تقدّمه، والهمزة للإنكار، و{كم} يحتمل أن تكون الاستفهامية وأن تكون الخبرية وهي معلقة لفعل الرؤية عن العمل فيما بعده، و{مّن قَرْنٍ} تمييز، والقرن: يطلق على أهل كل عصر، سموا بذلك لاقترانهم، أي ألم يعرفوا بسماع الأخبار، ومعاينة الآثار، كم أهلكنا من قبلهم من الأمم الموجودة في عصر بعد عصر؛ لتكذيبهم أنبياءهم. وقيل القرن مدّة من الزمان. وهي ستون عاماً أو سبعون أو ثمانون أو مائة على اختلاف الأقوال، فيكون ما في الآية على تقدير مضاف محذوف، أي من أهل قرن. قوله: {مكناهم فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ} مكّن له في الأرض جعل له مكاناً فيها، ومكّنه في الأرض: أثبته فيها، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل: كيف ذلك؟ وقيل: إن هذه الجملة صفة لقرن، والأوّل: أولى، و{ما} في {ما لم نمكن} نكرة موصوفة بما بعدها، أي مكّناهم تمكيناً لم نمكّنه لكم، والمعنى: أنا أعطينا القرون الذين هم قبلكم، ما لم نعطكم من الدنيا، وطول الأعمار وقوّة الأبدان، وقد أهلكناهم جميعاً، فإهلاككم وأنتم دونهم بالأولى. قوله: {وَأَرْسَلْنَا السماء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً} يريد المطر الكثير، عبّر عنه بالسماء، لأنه ينزل من السماء، ومنه قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ***
والمدرار صيغة مبالغة تدل على الكثرة كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور، وميناث للتي تلد الإناث، يقال درّ اللبن يدرّ، إذا أقبل على الحالب بكثرة. وانتصاب {مُّدْرَاراً} على الحال؛ وجريان الأنهار من تحتهم معناه: من تحت أشجارهم ومنازلهم، أي أن الله وسّع عليهم النعم بعد التمكين لهم في الأرض، فكفروها، فأهلكهم الله بذنوبهم {وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ} أي من بعد إهلاكهم {قَرْناً آخَرِينَ} فصاروا بدلاً من الهالكين، وفي هذا بيان لكمال قدرته سبحانه، وقوّة سلطانه، وأنه يهلك من يشاء ويوجد من يشاء.
قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} في هذه الجملة بيان شدّة صلابتهم في الكفر، وأنهم لا يؤمنون ولو أنزل الله على رسوله كتاباً مكتوباً في قرطاس بمرأى منهم ومشاهدة {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} حتى يجتمع لهم إدراك الحاستين: حاسة البصر، وحاسة اللمس {لَقَالَ الذين كَفَرُواْ} منهم {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ولم يعملوا بما شاهدوا ولمسوا، وإذا كان هذا حالهم في المرئيّ المحسوس، فكيف فيما هو مجرد وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة ملك، لا يرونه، ولا يحسونه؟ والكتاب مصدر بمعنى الكتابة، والقرطاس: الصحيفة.
قوله: {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} هذه الجملة مشتملة على نوع آخر من أنواع جحدهم لنبوّته صلى الله عليه وسلم وكفرهم بها، أي قالوا هلا أنزل الله عليك ملكاً نراه ويكلمنا أنه نبيّ حتى نؤمن به ونتبعه؟ كقولهم: {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان: 7] {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الأمر} أي لو أنزلنا ملكاً على الصفة التي اقترحوها بحيث يشاهدونه ويخاطبونه ويخاطبهم {لَقُضِىَ الأمر} أي لأهلكناهم إذ لم يؤمنوا عند نزوله، ورؤيتهم له؛ لأن مثل هذه الآية البينة، وهي نزول الملك على تلك الصفة إذا لم يقع الإيمان بعدها، فقد استحقوا الإهلاك والمعاجلة بالعقوبة {ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} أي لا يمهلون بعد نزوله ومشاهدتهم له؛ وقيل إن المعنى: إن الله سبحانه لو أنزل ملكاً مشاهداً لم تطق قواهم البشرية أن يبقوا بعد مشاهدته أحياء، بل تزهق أرواحهم عند ذلك، فيبطل ما أرسل الله له رسله، وأنزل به كتبه من هذا التكليف الذي كلف به عباده {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7].
قوله: {وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً} أي لو جعلنا الرسول إلى النبيّ ملكاً يشاهدونه، ويخاطبونه، لجعلنا ذلك الملك رجلاً، لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك على صورته التي خلفه الله عليها إلا بعد أن يتجسم بالأجسام الكثيفة المشابهة لأجسام بني آدم؛ لأن كل جنس يأنس بجنسه، فلو جعل الله سبحانه الرسول إلى البشر، أو الرسول إلى رسوله، ملكاً مشاهداً مخاطباً لنفروا منه ولم يأنسوا به، ولداخلهم الرعب وحصل معهم من الخوف ما يمنعهم من كلامه ومشاهدته، هذا أقلّ حال فلا تتمّ المصلحة من الإرسال.
وعند أن يجعله الله رجلاً، أي على صورة رجل من بني آدم، ليسكنوا إليه ويأنسوا به، سيقول الكافرون إنه ليس بملك وإنما هو بشر، ويعودون إلى مثل ما كانوا عليه.
قوله: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم؛ لأنهم إذا رأوه في صورة إنسان قالوا هذا إنسان وليس بملك، فإن استدل لهم بأنه ملك كذبوه قال الزجاج: المعنى للبسنا عليهم، أي على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفتهم، وكانوا يقولون لهم: إنما محمد بشر وليس بينه وبينكم فرق. فيلبسون عليهم بهذا ويشككونهم، فأعلم الله عزّ وجلّ أنه لو نزل ملكاً في صورة رجل، لوجدوا سبيلاً إلى اللبس كما يفعلون. واللبس: الخلط، يقال لبست عليه الأمر ألبسه لبساً، أي خلطته، وأصله التستر بالثوب ونحوه. ثم قال سبحانه مؤنساً لنبيه صلى الله عليه وسلم ومسلياً له {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} يقال: حاق الشيء يحيق حيقاً وحيوقاً وحيقاناً: نزل أي فنزل ما كانوا به يستهزءون، وأحاط بهم، وهو الحق حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به {قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض} أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين سافروا في الأرض، وانظروا آثار من كان قبلكم لتعرفوا ما حلّ بهم من العقوبات، وكيف كانت عاقبتهم بعدما كانوا فيه من النعيم العظيم الذي يفوق ما أنتم فيه، فهذه ديارهم خاربة وجناتهم مغبرة وأراضيهم مكفهرة، فإذا كانت عاقبتهم هذه العاقبة، فأنتم بهم لاحقون، وبعد هلاكهم هالكون.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} يقول: ما يأتيهم من شيء من كتاب الله إلا أعرضوا عنه، وفي قوله: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} يقول: سيأتيهم يوم القيامة أنباء ما استهزءوا به من كتاب الله عزّ وجل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: {مّن قَرْنٍ} قال: أمة.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله: {مكناهم فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ} يقول: أعطيناهم ما لم نعطكم.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن هارون التيمي في الآية قال: المطر في إبانة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي عن ابن عباس، في قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} يقول: لو أنزلنا من السماء صحفاً فيها كتاب {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} لزادهم ذلك تكذيباً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} قال: فمسوه ونظروا إليه لم يصدقوا به.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن محمد بن إسحاق قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام، وكلمهم فأبلغ إليهم فيما بلغني، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب، والنضر بن الحارث بن كلدة، وعبدة بن عبد يغوث، وأُبيّ بن خلف بن وهب، والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس ويرى معك، فأنزل الله: {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} الآية.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله: {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} قال: ملك في صورة رجل {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الأمر} لقامت الساعة.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله: {لَقُضِىَ الأمر} يقول: لو أنزل الله ملكاً ثم لم يؤمنوا لعجل لهم العذاب.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس في قوله: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً} قال: ولو أتاهم ملك في صورته {لَقُضِىَ الأمر} لأهلكناهم {ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} لا يؤخرون {وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً} قال: في صورة رجل في خلق رجل.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله: {وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً} يقول: في صورة آدميّ.
وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم} يقول: شبهنا عليهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السدي في الآية قال: شبهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن محمد بن إسحاق قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني بالوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، وأبي جهل بن هشام فهمزوه واستهزءوا به فغاظه ذلك، فأنزل الله: {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ}.


قوله: {قُل لّمَن مَّا فِى السموات والأرض} هذا احتجاج عليهم وتبكيت لهم، والمعنى: قل لهم هذا القول فإن قالوا فقل لله، وإذا ثبت أن له ما في السموات والأرض إما باعترافهم، أو بقيام الحجة عليهم، فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب، ولكنه كتب على نفسه الرحمة، أي وعد بها فضلاً منه وتكرّماً، وذكر النفس هنا عبارة عن تأكد وعده، وارتفاع الوسائط دونه، وفي الكلام ترغيب للمتولين عنه إلى الإقبال إليه وتسكين خواطرهم بأنه رحيم بعباده لا يعاجلهم بالعقوبة، وأنه يقبل منهم الإنابة والتوبة، ومن رحمته لهم إرسال الرسل، وإنزال الكتب، ونصب الأدلة.
قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} اللام جواب قسم محذوف. قال الفراء وغيره: يجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله: {الرحمة} ويكون ما بعدها مستأنفاً على جهة التبيين، فيكون المعنى {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} ليمهلنكم وليؤخرنّ جمعكم. وقيل المعنى: ليجمعنكم في القبور إلى اليوم الذي أنكرتموه. وقيل: {إلى} بمعنى في، أي ليجمعنكم في يوم القيامة. وقيل يجوز أن يكون موضع {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} النصب على البدل من الرحمة، فتكون اللام بمعنى (أن). والمعنى: كتب ربكم على نفسه الرحمة أن يجمعنكم كما قالوا في قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] أي أن يسجنوه. وقيل إن جملة {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} مسوقة للترهيب بعد الترغيب، وللوعيد بعد الوعد، أي إن أمهلكم برحمته فهو مجازيكم بجمعكم في معاقبة من يستحق عقوبته من العصاة، والضمير في {لاَ رَيْبَ فِيهِ} لليوم أو للجمع.
قوله: {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}. قال الزجاج: إن الموصول مرتفع على الابتداء وما بعده خبره كما تقول: الذي يكرمني فله درهم، فالفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط.
وقال الأخفش: إن شئت كان {الذين} في موضع نصب على البدل من الكاف والميم في {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} أي ليجمعنّ المشركين الذين خسروا أنفسهم، وأنكره المبرد، وزعم أنه خطأ، لأنه لا يبدل من المخاطب ولا من المخاطب. لا يقال: مررت بك زيد ولا مررت بي زيد. وقيل: يجوز أن يكون {الذين} مجروراً على البدل من المكذبين الذين تقدّم ذكرهم، أو على النعت لهم. وقيل: إنه منادى وحرف النداء مقدّر.
قوله: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى اليل والنهار} أي: لله، وخصّ الساكن بالذكر، لأن ما يتصف بالسكون أكثر مما يتصف بالحركة؛ وقيل المعنى: ما سكن فيهما أو تحرّك فاكتفى بأحد الضدّين عن الآخر، وهذا من جملة الاحتجاج على الكفرة.
قوله: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} الاستفهام للإنكار، قال لهم ذلك لما دعوه إلى عبادة الأصنام، ولما كان الإنكار لاتخاذ غير الله ولياً، لا لاتخاذ الولي مطلقاً؛ دخلت الهمزة على المفعول لا على الفعل.
والمراد بالوليّ هنا: المعبود أي كيف أتخذ غير الله معبوداً؟ و{فَاطِرَ السموات والأرض} مجرور على أنه نعت لاسم الله، وأجاز الأخفش الرفع على إضمار مبتدأ، وأجاز الزجاج النصب على المدح، وأجاز أبو عليّ الفارسي نصبه بفعل مضمر، كأنه قيل أترك فاطر السموات والأرض. قوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} قرأ الجمهور بضم الياء وكسر العين في الأوّل، وضمها وفتح العين في الثاني، أي يرزق ولا يرزق، وقرأ سعيد بن جبير، ومجاهد، والأعمش بفتح الياء في الثاني وفتح العين، وقرئ بفتح الياء والعين في الأوّل، وضمها وكسر العين في الثاني على أن الضمير يعود إلى الوليّ المذكور، وخصّ الإطعام دون غيره من ضروب الإنعام؛ لأن الحاجة إليه أمسّ.
قوله: {قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أمره سبحانه بعد ما تقدّم من اتخاذ غير الله ولياً أن يقول لهم: إنه مأمور بأن يكون أوّل من أسلم وجهه لله من قومه، وأخلص من أمته؛ وقيل معنى {أَسْلَمَ} استسلم لأمر الله، ثم نهاه الله عزّ وجلّ أن يكون من المشركين. والمعنى: أمرت بأن أكون أوّل من أسلم ونهيت عن الشرك، أي يقول لهم هذا، ثم أمره أن يقول: {إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي إن عصيته بعبادة غيره أو مخالفة أمره ونهيه. والخوف: توقع المكروه؛ وقيل: هو هنا بمعنى العلم، أي إني أعلم إن عصيت ربي أن لي عذاباً عظيماً.
قوله: {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} قرأ أهل المدينة وأهل مكة، وابن عامر، على البناء للمفعول، أي من يصرف عنه العذاب، واختار هذه القراءة سيبويه. وقرأ الكوفيون على البناء للفاعل، وهو اختيار أبي حاتم، فيكون الضمير على هذه القراءة لله. ومعنى {يَوْمَئِذٍ} يوم العذاب العظيم، {فَقَدْ رَحِمَهُ} الله أي نجاه وأنعم عليه وأدخله الجنة، والإشارة بذلك إلى الصرف أو إلى الرحمة، أي فذلك الصرف أو الرحمة {الفوز المبين} أي الظاهر الواضح، وقرأ أبيّ {مَّن يُصْرَفْ عَنْه}.
قوله: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ} أي إن ينزل الله بك ضراً من فقر أو مرض {فَلاَ كاشف لَهُ إِلاَّ هُوَ} أي لا قادر على كشفه سواه {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} من رخاء أو عافية {فَهُوَ على كُلّ شَئ قَدُيرٌ} ومن جملة ذلك المسّ بالشرّ والخير. قوله: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} القهر: الغلبة، والقاهر: الغالب، وأقهر الرجل: إذا صار مقهوراً ذليلاً، ومنه قول الشاعر:
تمنى حصين أن يسود خزاعة *** فأمسى حصين قد أذلّ وأقهرا
ومعنى: {فَوْقَ عِبَادِهِ} فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم، لا فوقية المكان كما تقول: السلطان فوق رعيته، أي بالمنزلة والرفعة.
وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة، وهو منع غيره عن بلوغ المراد {وَهُوَ الحكيم} في أمره {الخبير} بأفعال عباده. قوله: {قُلْ أَىُّ شَئ أَكْبَرُ شهادة} أيّ مبتدأ، وأكبر خبره، وشهادة تمييز، والشيء يطلق على القديم والحادث، والمحال والممكن. والمعنى: أيّ شهيد أكبر شهادة، فوضع شيء موضع شهيد. وقيل: إن {شَئ} هنا موضوع موضع اسم الله تعالى. والمعنى: الله أكبر شهادة، أي انفراده بالربوبية، وقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة، وأعظم فهو شهيد بيني وبينكم. وقيل: إن قوله: {الله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ} هو الجواب، لأنه إذا كان الشهيد بينه وبينهم كان أكبر شهادة له صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنه قد تمّ الجواب عند قوله: {قُلِ الله} يعني الله أكبر شهادة، ثم ابتدأ فقال: {شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ} أي شهيد بيني وبينكم.
قوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغ} أي أوحى الله إليّ هذا القرآن الذي تلوته عليكم؛ لأجل أن أنذركم به، وأنذر به من بلغ إليه، أي كل من بلغ إليه من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة، وفي هذه الآية من الدلالة على شمول أحكام القرآن لمن سيوجد، كشمولها لمن قد كان موجوداً وقت النزول، ما لا يحتاج معه إلى تلك الخزعبلات المذكورة في علم أصول الفقه، وقرأ أبو نهيك {وَأُوحِىَ} على البناء للفاعل، وقرأ ابن عدي على البناء للمفعول. قوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله آلِهَةً أخرى} الاستفهام للتوبيخ والتقريع على قراءة من قرأ بهمزتين على الأصل أو بقلب الثانية، وأما من قرأ على الخبر فقد حقّق عليهم شركهم، وإنما قال: {آلِهَةً أخرى} لأن الآلهة جمع، والجمع يقع عليه التأنيث، كذا قال الفراء، ومثله قوله تعالى: {وَللَّهِ الأسماء الحسنى} [الأعراف: 180] وقال: {فَمَا بَالُ القرون الاولى} [طه: 51] {قُل لاَّ أَشْهَدُ} أي فأنا لا أشهد معكم فحذف لدلالة الكلام عليه، وذلك لكون هذه الشهادة باطلة، ومثله: {فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150] و{ما} في {مّمَّا تُشْرِكُونَ} موصولة أو مصدرية، أي من الأصنام التي تجعلونها آلهة، أو من إشراككم بالله.
قوله: {الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} الكتاب للجنس فيشمل التوراة والإنجيل وغيرهما، أي يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال به جماعة من السلف، وإليه ذهب الزجاج. وقيل إن الضمير يرجع إلى الكتاب، أي يعرفونه معرفة محققة، بحيث لا يلتبس عليهم منه شيء، و{كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ} بيان لتحقيق تلك المعرفة وكمالها وعدم وجود شك فيها، فإن معرفة الآباء للأبناء هي المبالغة إلى غاية الإتقان إجمالاً وتفصيلاً. قوله: {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} في محل رفع على الابتداء، وخبره {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ودخول الفاء في الخبر، لتضمن المبتدأ معنى الشرط.
وقيل: إن الموصول خبر مبتدأ محذوف. وقيل: هو نعت للموصول الأوّل. وعلى الوجهين الأخيرين يكون {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} معطوفاً على جملة {الذين ءاتيناهم الكتاب}. والمعنى على الوجه الأوّل: أن الكفار الخاسرين لأنفسهم بعنادهم وتمرّدهم لا يؤمنون بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الوجهين الأخيرين أن أولئك الذين آتاهم الله الكتاب هم الذين خسروا أنفسهم بسبب ما وقعوا فيه من البعد عن الحق، وعدم العمل بالمعرفة التي ثبتت لهم فهم لا يؤمنون.
قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} أي اختلق على الله الكذب فقال: إن في التوراة والإنجيل ما لم يكن فيهما {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِه} التي يلزمه الإيمان بها من المعجزة الواضحة البينة، فجمع بين كونه كاذباً على الله، ومكذباً بما أمره الله بالإيمان به، ومن كان هكذا فلا أحد من عباد الله أظلم منه، والضمير في {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} للشأن.
وقد أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سلمان الفارسيّ قال: إنا نجد في التوراة أن الله خلق السموات والأرض، ثم جعل مائة رحمة قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق الخلق فوضع بينهم رحمة واحدة، وأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة، فبها يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها يتبادلون، وبها يتزاورون وبها تحنّ الناقة، وبها تنتج البقرة، وبها تيعر الشاة، وبها تتابع الطير، وبها تتابع الحيتان في البحر، فإذا كان يوم القيامة جمع تلك الرحمة إلى ما عنده، ورحمته أفضل وأوسع.
وقد أخرج مسلم، وأحمد، وغيرهما، عن سلمان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة: منها رحمة يتراحم بها الخلق، وتسعة وتسعون ليوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة» وثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما قضى الله الخلق كتب كتاباً فوضعه عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي» وقد روي من طرق أخرى بنحو هذا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى اليل والنهار} يقول ما استقرّ في الليل والنهار، وفي قوله: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} قال: أما الولي فالذي تولاه، ويقرّ له بالربوبية.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس في قوله: {فَاطِرَ السموات والأرض} قال: بديع السموات والأرض.
وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن جرير، وابن الأنباري، عنه قال: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض؟ حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} قال: يرزق ولا يرزق.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ} قال: من يصرف عنه العذاب.
وأخرج أبو الشيخ عن السديّ في قوله: {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} يقول: بعافية.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: جاء التمام بن زيد، وقردم بن كعب، وبحري بن عمرو فقالوا: يا محمد ما تعلم مع الله إلها غيره؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا إله إلا الله، بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو»، فأنزل الله: {قُلْ أَىُّ شَئ أَكْبَرُ شهادة} الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن مجاهد قال: أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يسأل قريشاً أيّ شيء أكبر شهادة؟ ثم أمره أن يخبرهم فيقول: الله شهيد بيني وبينكم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس في قوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ} يعني أهل مكة {وَمَن بَلَغَ} يعني من بلغه هذا القرآن من الناس فهو له نذير.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن أنس قال: لما نزلت هذه الآية {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن} كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، وقيصر، والنجاشي، وكل جبار يدعوهم إلى الله عزّ وجل، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن مردويه، وأبو نعيم، والخطيب وابن النجار، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بلغه القرآن فكأنما شافهته به»، ثم قرأ، {وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن الضريس، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن محمد بن كعب القرظي قال: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ من بلغه القرآن حتى تفهمه وتعقله كان كمن عاين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن مجاهد في قوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِه} قال: العرب {وَمَن بَلَغَ} قال: العجم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة قال: قال النضر وهو من بني عبد الدار: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى، فأنزل الله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} الآية.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8